أخبار | السودان الحرة
بقلم/ محمد الحسن محمد نور
في المقال السابق، تناولنا الآلية الخوارزمية التي تدفع بـ”التافهين” إلى واجهة المشهد وتتعهّدهم حتى يغدوا نجوماً، ثم قادة يسوقون المجتمع بالجهل إلى المجهول وبئس المصير. أما في هذا الجزء، فسنحاول تتبّع الجذور التاريخية لهذه الظاهرة في مجتمعاتنا القديمة، لنفهم الأسباب التي تجعل المحتوى السطحي يلقى رواجًا في مجتمعاتنا أكثر من غيرها.
فالسطحية لم تُولد من رحم وسائل التواصل الاجتماعي وحدها، والتكنولوجيا ليست هي المتهم الأول؛ بل إن التراكم الثقافي منذ الجاهلية قد رسّخ قيمة الشكل على حساب المضمون. ففي الجاهلية كانت الحياة كلها تقريبًا تدور حول سوق عكاظ، حيث كان الشعر والخطابة يتربّعان على قمة الهرم الثقافي. في ذلك السوق كان الإبهار السمعي هو معيار التفوق، وكان الشاعر النجم الأول والإعلامي الأبرز. هناك تكرّس مجد القول على الفعل، وصار التضخيم والمبالغة سمة الخطاب، واعتمدت البلاغة في تغيير الواقع والحقيقة.
ولكي نستبين الأمر، دعونا نستأنس ببعض النماذج وتأثيرها.
فامرؤ القيس يقول:
وَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ⋆ وَإِنْ خَلَّتِ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
أنظر كيف يبالغ الشاعر في وصف الملك بما يجافي المنطق، ورغم ذلك يخلد مثل هذا القول الزائف ويبقى حيًا لعشرات القرون حتى يصل إلينا.
وعمرو بن كلثوم يتباهى بقبيلته مبالغةً تصل حد الأسطورة:
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ ⋆ تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِدِينَ
أما عنترة، فيقلب لحظة الحرب إلى مشهد غزلي باهر:
وَدِدْتُ تَقَبِيلَ السُّيُوفِ لأَنَّهَا ⋆ لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
ثم يأتي نموذج آخر يوظف الشعر ويستعمل الخدعة اللفظية ليغيّر حال قبيلة “أنف الناقة” التي كانت تُحقر باسمها إلى الافتخار بذات الاسم، حيث قال:
قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ وَالأَذْنَابُ دُونَهُمُ ⋆ فَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
هكذا تم استخدام الشعر متخذًا من قوة البلاغة أداة ووسيلة للتزييف، فصارت المبالغة والتمجيد الكاذب والتضليل بوساطة البلاغة هي ما يشكّل الوعي العربي على أن الكلمة المقفاة تبرر الكذب، وأن التضخيم نوعٌ من الذكاء.
ومع بزوغ الإسلام، بدأ هذا الوعي يتبدل. فقد دعا القرآن الكريم إلى الصدق، وحذّر من القول بغير علم، فاستعاد الكلام معناه. ثم جاء العصر العباسي الذي ازدهرت فيه الحكمة والعلم، وساهمت الترجمة في نقل الفكر النقدي إلى الثقافة العربية. وأثرت مكتبات مثل دار الحكمة، وظهرت التراجم الأدبية التي كان من أهمها كتاب “كليلة ودمنة” الذي نقله ابن المقفع، مقدّمًا نموذجًا للأدب الهادف إلى تهذيب السلوك وتربية الوعي بأسلوب رمزي فلسفي رفيع.
وفي هذه الفترة تحوّل الشعر إلى شعر الحكمة، فظهر أبو العتاهية ليقول:
نأتى إلى الدنيا ونحن سواسية
طفل الملوك هنا كطفل الحاشية
ونغادر الدنيا ونحن كما ترى،
متشابهون على قبور حافية،
أعمالنا تعلى وتخفض شأننا،
وحسابنا بالحق يوم الغاشية.
كان كتاب كليلة ودمنة ثورة فكرية، لأنه استخدم القصة لتقويم الأخلاق والسياسة عبر رمزية الحيوانات، فحرّر الخطاب من المديح الزائف إلى الحكمة والموعظة. ومن هذا المناخ الثقافي استلهم أبو العتاهية نزعة الزهد والصدق والبساطة في شعره، موجّهًا حديثه إلى عامة الناس بلغة واضحة لا تزييف فيها. لقد كانت تلك لحظة استعادة مؤقتة للمعنى بعد قرون من الانبهار باللفظ.
لكن الارتداد لم يتأخّر، فما أن أطلّ القرن الرابع الهجري وبدأت الثقافة في الاضمحلال، حتى استعادت المُبالغة مكانتها مَرّةً أخرى، وبدأ انتشار حكايات ألف ليلة وليلة، فعاد الخيال إلى المُبالغة، وعادت البلاغة إلى وظيفتها القديمة في تسلية العامة بدلًا من تنويرهم. كانت كليلة ودمنة نداءً للعقل، فجاءت ألف ليلة وليلة نداءً للخيال الهارب من الواقع. فبدأ المعنى يضعف من جديد، ليحل محله البهرج والإسفاف.
ومع دخول العصر الحديث، تكرّرت الظاهرة في شكل جديد، مدعّمة بالصوت والصورة الثابتة والمتحركة. فكما كان الشعر وسيلة للتكسب عبر مدح الملوك، أصبح الإعلام والتسويق أداةً لمدح المنتجات والسياسيين والمشاهير على السواء. استُبدل “مديح الخليفة” بـ”مديح الماركة”، و”قصيدة الولاء” بـ”إعلان مدفوع”. المؤثر اليوم هو الشاعر القديم في نسخة رقمية؛ يبيع المصداقية لقاء المشاهدات، ويتفنّن في صناعة الإعجاب كما تفنّن القدماء في صناعة القوافي.
ولأن المنصات الحديثة وفّرت جمهورًا لا نهائيًا وآليات فورية للتصفيق – إعجابات، مشاركات، مشاهدات – صار العرض غايةً في ذاته، وصار الاهتمام غنيمةً. ومن هنا نشأت ذهنية “الترند” التي لا تختلف عن ذهنية “المفاخرة” في أسواق العرب إلا في الوسيلة.
هكذا تضافرت الموروثات القديمة مع الآليات الجديدة لتصنع وعينا المعاصر: وعيًا مشدودًا إلى السطح، مأخوذًا بالبريق، يخاف العمق ويخشاه.
لقد احتبس الفكر بين المُبالغة القديمة والإيقاع الرقمي الحديث، فصار الشكل كل شيء، وصار المضمون غائبًا إلا بمقدار ما يخدم التفاعل.
إنّنا ببساطة لم نغادر الماضي، بل رقمنّاه “تخلفنا”. ولا فكاك لنا إلا بالعودة إلى المعنى بالعمل الجاد فى إتجاه التوعية الجماهيرية التي تقودها طلائع مسؤولة.
محمد الحسن محمد نور
١٧ أكتوبر ٢٠٢٥