أخبار | السودان الحرة
بقلم – محمد حمد الشيخ إدريس
العيلفون ليست مجرد بلدة، بل هي قلب نابض في جسد السودان التاريخي والثقافي والوطني؛ أرض الفن والشعر ومنبت المبدعين أمثال الجاغريو شاعر الحب والجمال والنضال، وأحمد المصطفى وسيد خليفة من الدبيبة، ومبارك حسن بركات من أرض الحديبة العدنانية، وخلف الله حمد وثنائي الدبيبة العيلفونية ومجاهدي باقيرنا العظيم بأهله، وشريقنا الشريك، وأم تكالي، وتوأمة الحفرة والقوز بالاهلية العيلفونية المعاشة في الحوش العيلفوني الرحيب.
إنها العيلفون، حاضنةُ الأصالةِ ومهبطُ الحكمة، وموطنُ المفتي العظيم الشيخ إدريس ود الأرباب، مفتي ديار الفونج إبان السلطنة الزرقاء، مما يمنحها رصيدًا روحيًا وتاريخيًا لا يُقدّر بثمن.
ومن صفحات المجد المنسي، تبرز معركة الكتلة كرمز خالد للتضحية، حين تصدى أبناء العيلفون ببسالة للحملات الانتقامية التي قادها الدفتردار، واستشهد فيها خمسون فارسًا، من بينهم جدي ولا فخر، علي ود أَخْرَيش. سُطّرت هذه الموقعة في ذاكرة الوطن كعلامة فارقة من النضال السوداني المبكر ضد القهر والغزو، لذا كانت وسوف تظل العيلفون درة شرق النيل، بأريجها وندها، واحة للجمال والنضال.
وفي اللحظة التي اهتزت فيها جدران الوطن تحت نير العدوان، انتفض أبناء العيلفون ووقفوا صفًا واحدًا يذودون عن العرض والأرض، متقدمين الصفوف في معسكر سلاح المهندسين بالعيلفون، تحت قيادة اللواء سيف اليزل الخليفة والعميد المهندس أمير إبراهيم سعيد وصحبه الأماجد. لقد جادوا بأرواحهم في سبيل الكرامة، وكتبوا أسماءهم في سفر البطولة بحروف من نور.
ومن مشاهد العطاء المترسخ، تضيء “التكية” كنموذج حي للتراحم الاجتماعي، حيث يأكل منها الغني والفقير على حد سواء، بسخاء عيلفوني أصيل، منذ أيام النزوح وحتى العودة المباركة. وما زالت عامرة بالبركة حتى يومنا هذا، شاهدة على كرم النفوس وسمو القيم.
وما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى انطلقت ملحمة التعمير بروح جماعية وتلاحم فريد بين أبناء العيلفون في الداخل والخارج، فكانوا أهلًا للمسؤولية والعطاء. هذه “حميمية العيلفون الجديدة” لم تكن مجرد شعار، بل واقعًا معاشًا أضاء الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا لكل أهل شرق النيل.
وقد تجلت بصمات التنمية في مشاريع متعددة، من أبرزها تركيب 12 محطة طاقة شمسية لتغذية محطات المياه، تأكيدًا على الاستدامة والتطور، وإنارة أكثر من 12 مسجدًا ومسيدًا بالطاقة الشمسية، من ضمنها مسيد الشيخ إدريس ود الأرباب، في مزيج روحاني وتقني فريد. كما نُفذ برنامج السقيا على يد شباب وشابات في مقتبل العمر، في صورة مبهرة لتلاحم الأجيال، وانطلقت برامج إصلاح البيئة في الشوارع والمدارس والمساجد، تعزيزًا للنظافة والوعي المجتمعي.
ورغم التخريب الممنهج، انتصرت إرادة العيلفونيين، فتمت صيانة وتنظيف غالبية المدارس، وشارك الطلاب في امتحانات الشهادة السودانية رغم الظروف القاهرة، مدعومين بعزيمة وعون من أبناء البلدة في كل مكان.
وعلى صعيد الصحة، شهدت العيلفون خطوات لافتة، شملت تنظيف وصيانة المراكز الصحية، وتركيب أجهزة طبية وتوفير الأدوية الأساسية، وبدء إعادة افتتاح مركز صحي مبارك عبدالعزيز، الأكبر من نوعه في المنطقة، ليعود منارة للشفاء والرعاية المتكاملة.
وفي مشهد يعكس عزمًا لا يلين، تمت إنارة الشارع الرئيسي بالطاقة الشمسية لمسافة تقارب كيلومترين، من مدخل العيلفون وحتى معسكر سلاح المهندسين جنوبًا، في رسالة واضحة بأن العتمة لا تليق بالعيلفون.
كل هذه الإنجازات كانت ثمرة قيادة ملهمة وميدانية، بقيادة البروفيسور بدر الدين عبد الرحمن السر، ربان السفينة، ومعه كوكبة من القادة الشباب في الداخل والخارج من غرفة الطوارئ، الذين نسجوا خيوط الأمل من واقع الألم، لتبقى العيلفون شعلة لا تنطفئ، وتحولت إلى منظمة للتنمية والتعمير بجهد هؤلاء الرجال الأوفياء.
العيلفون، تلك الجوهرة المتلألئة شرق النيل، ليست مجرد مكان، بل تاريخ يُروى، ومجد يُبنى، ونموذج يُقتدى. إنها بحق “جنة عدن” و”أم الزمان”، كما يسميها عارفو التاريخ، ولا تزال تنبض بالفن والشعر والموقف النبيل، كما كانت دائمًا، وكما ستظل دومًا. فالتحية لكل شباب وشابات العيلفون الذين شمروا سواعدهم، كلٌ في موقعه وإضافته، إن شاء الله، بالدعوات الصالحة التي بها تعم البركة والبركات في هذه الديار الطاهرة.
من العيلفون إلى الدبيبة والحديبة والباقير والشريق وأم تكالي، ارتسمت ملامح الصمود والعطاء في لوحة وطنية تستحق الإجلال. إن ما خطه أبناء هذه القرى من مجد في ساحات القتال، ومن نور في دروب التنمية، يثبت أن العيلفون ليست مجرد جغرافيا، بل روح تسري في جسد الوطن، وميراث من الكرامة يُروى عبر الأجيال.