أخبار | السودان الحرة
بقلم: محمد الحسن محمد نور
لقد ظل الإنسان عبر العصور يتساءل عن السر الحقيقي وراء التفوق، هل هو العقل الفذ الذي يحلل أعقد المسائل، أم القلب الواعي الذي يدرك أعماق النفس البشرية؟ في عالم اليوم، حيث تتسارع وتيرة التغيير وتتداخل المهام، لم يعد النجاح رهناً بقُدرة عقلية واحدة، بل أصبح مرتبطاً بمدى التوازن بين قوتين عظيمتين: قوة الذكاء العقلي (IQ) وقوة الذكاء العاطفي (EQ).
الذكاء العقلي يمثل جوهر القدرات الذهنية التي تمكّننا من التفكير المنطقي وتحليل البيانات وحل المشكلات المعقدة وفهم الأنماط البصرية والرياضية. وهو ما يقود إلى التميز في المجالات الأكاديمية والمهنية التي تتطلب دقة التحليل، كالهندسة والعلوم والتخطيط الاستراتيجي. أما الذكاء العاطفي، فهو البوصلة التي توجه المشاعر، وتمنح القدرة على فهم الذات وإدارة العواطف والتحكم في ردود الفعل، كما تفتح الباب للتعاطف مع الآخرين وبناء العلاقات. وإذا كان الأول يتفوّق في الجوانب التقنية، فإنّ الثاني هو مفتاح التقدم في الأدوار القيادية وإدارة العلاقات الإنسانية بفاعلية. وتشير الدراسات إلى أنّ اختبارات الذكاء العقلي لا تتنبّـأ بأكثر من 20% من عوامل النجاح المهني، بينما يسهم الذكاء العاطفي بنحو 40%، الأمر الذي يفسر إخفاق بعض أصحاب القدرات العقلية العالية في الحفاظ على وظائفهم بسبب ضعفهم في هذا الجانب.
وإذا كان الذكاء بمفهومه الواسع يشمل القدرات العقلية والعاطفية، فإنّ الموهبة طاقة كامنة أو استعداد يولد مع الإنسان، لا يكتفي بالقدرة العقلية وحدها، بل يتّسع ليشمل القدرات الإبداعية والاجتماعية والنفسحركية. والفرق الجوهري هنا هو أنّ الموهبة إنما هى قدرة كامنة ذات أصل وراثي، بينما التفوق أداء يظهر عبر الممارسة والبيئة المحيطة. وهنا يتجلى دور العمل الجاد في صقل الموهبة وتحويلها إلى نجاح ملموس، فالطاقة الفطرية وحدها لا تكفي ما لم تُدعَم بمهارات الذكاء العقلي كالتحليل والمنطق، وبقدرات الذكاء العاطفي كالمثابرة والتحفيز الذاتي.
أهمية هذين الذكاءين تتجاوز حدود النجاح المهني لتنعكس على كل جوانب الحياة. ففي الصحة النفسية والجسدية، يساعد الذكاء العاطفي على إدارة التوتر والضغوط، فيقي من أمراض خطيرة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب، بينما يؤدي ضعف الوعي بالمشاعر إلى اضطراب نفسي وجسدي. وفي العُمق الأسرى، يمثل الذكاء العاطفي لغة التفاهم التي تخفف من سوء الفهم وتمنع تراكم التوترات، وهو ما يخلق جوّاً أكثر دفئاً وتناغماً، بل إنّ دوره يمتد إلى التربية، حيث يصبح الأطفال الذين ينشؤون في بيئة ترعى وتعزز هذا الذكاء أكثر قدرة على التكيف واتخاذ القرارات السليمة. وعلى مستوى المجتمع، يُشكِّل الذكاء العاطفي المادة اللاصقة التي تعزز الحوار الإيجابي، وتقوي الثقة، وتدعم التعاون، مما يزيد من شعور الأفراد بالانتماء ويحفزهم على المشاركة الفاعلة.
ولا يمكن الحديث عن فن التحدث المؤثر أو الكاريزما دون الإشارة إلى الذكاء العاطفي. فالكاريزما ليست سحراً يُولد مع البعض، بل هي مزيجٌ من الثقة بالنفس والوعي العاطفي والجاذبية الشخصية. ومن خلال القُـدرة على قراءة لغة الجسد، وفهم تعابير الوجه، واستشعار حاجات الآخرين، يصبح الإنسان لمّاحاً وأكثر قدرةً على بناء الثقة والتأثير في محيطه. وقد جسّدت شخصيات عربية بارزة هذا التكامل بين العقل والعاطفة. فالجرّاح مجدي يعقوب لم يكتفِ بعبقريته الطبية، بل جعل من إنسانيته منطلقاً لإنشاء مراكز مجانية لعلاج القلوب، إيماناً منه بأن العلم لا ينفصل عن الرحمة. وكذلك رجل الأعمال محمود العربي، الذي بنى إمبراطوريته التجارية على الثقة والكرم، وجعل من شعار “صناع الثقة” أساساً لنجاحه. وفي مجال الإبداع، برزت المهندسة العراقية زها حديد مثالاً على كيف يمكن للموهبة الفطرية أن تتحول، عبر شغف حقيقي ومثابرة واعية، إلى إنجاز عالمي خالد.
وقد أكد المختصون أن الذكاء العاطفي مهارة قابلة للصقل والتطوير بالممارسة والتدريب المستمر، بينما يمكن تعزيز الذكاء العقلي عبر أنشطة تحفّز الدماغ مثل حل الألغاز المنطقية أو تعلم لغة جديدة. أما الذكاء العاطفي، فتقويته رحلة مستمرة تبدأ بالوعي الذاتي من خلال التأمُّل اليومي أو تدوين المشاعر أو طلب الملاحظات البنّاءة من المُحيطين. كما يتطلب تعويد النفس على ضبط الانفعالات عبر التنفس العميق أو التريث قبل الرد، إلى جانب تنمية التعاطف بالاستماع الفعّال وتجربة النظر إلى الأمور من منظور الآخرين، وتحسين المهارات الاجتماعية بتبني لغة حوار أكثر إيجابية مثل “أنا أشعر بـ…” بدلاً من اللوم.
وفي الخلاصة، يتّضح أنّ النجاح في عالمنا المعقد لم يعد حكراً على العقول اللامعة وحدها، بل يقوم على معادلة متوازنة تجمع بين التفكير التحليلي والقدرة على بناء الروابط الإنسانية. إنها دعوة لبناء شخصية متكاملة توازن بين الطموح والإنسانية، وتدفع نفسها ومن حولها إلى إنجازات غير مسبوقة في بيئة آمنة وداعمة. فالقائد الحقيقى هو ذاك الذي يجمع بين عُمق الفكر والقدرة الإنسانية الاستثنائية، هو القائد الذي يلهم قبل أن يملي، يغير قبل أن يسيطر، يحب ولا يخشى.
٢١ سبتمبر ٢٠٢٥