أخبار | السودان الحرة
يكتبها – هشام الخليفة
اعتدتُ في كتاباتي الرتيبة في هذا الباب أن أروي مشاهدات حية لما حدث لي شخصياً أو لأحد أقاربي أو أصدقائي أو في دائرة المعارف القريبة، لذلك تحس في تلك الروايات بالمصداقية والحيوية. لكنني في هذه المرة سأخرج عن المألوف لأحكي قصصاً وروايات بعيدة عن هذا النطاق، for a change (للتغيير)، ثم لأنني وجدت في هذه القصص من الغرائبيات ما يجعلها مشوقة للقارئ، مضيفةً لذخيرته من المعلومات. وقد استخدمت لكل قصة تعبير “الثقب الأسود” لأنها بالفعل ثقب أسود في ثوب الحياة الناصع البياض.
أول هذه القصص من البرازيل، تلك الدولة التي اشتهرت في العالم بلعبة كرة القدم معبودة الجماهير، ولكن اسمها طغى على الأخبار في فترة زمنية سابقة لسبب مختلف تماماً.
وسط غابات البرازيل الكثيفة (اندست) قرية صغيرة معزولة عن العالم اسمها “هوير فيردي”، يعيش أهلها حياة هادئة بعيداً عن صخب المدينة وضجيجها، يأكلون مما يزرعون ويربون من ماشية ودجاج. لا يرون المدينة إلا حينما يأتونها في مواسم الحصاد حاملين منتجاتهم من الخضروات والمحاصيل والألبان والماشية. كانوا قانعين بهذه الحياة البسيطة لا يستبدلونها بأي أسلوب حياة آخر، حتى التطبيب فقد كانوا يلجأون للمعالجين الروحانيين والخبراء من علماء الأعشاب البلدية. وهكذا سارت بهم الأيام هادئة بلا عقد ولا عراقيل حتى حل ذلك اليوم المشؤوم.
لاحظ سكان القرى المجاورة أن الحياة قد هدأت تماماً فلم يسمعوا ضجيج الحيوانات في طريقها للمراعى، ولا أصوات الأهالي وهم يملؤون الطرقات، أو ضجيج الأطفال وهم يلهون ويلعبون. قاد بعضهم الفضول فاقتربوا من حدود القرية ليعرفوا ما حدث بالضبط، فتفاجأوا بانعدام أي أثر للحياة في القرية. أسرعوا لإبلاغ أقرب نقطة شرطة، وسرعان ما حضر عساكر الشرطة، فوجدوا أن القرية خاوية صَفصفة. فاتجهوا لإخطار أقرب حامية عسكرية خشية أن يكون قد حدث اعتداء على الأهالي فاختفوا في مكان ما حماية لأنفسهم، ولكن عندما حضرت قوات الجيش كانت المفاجأة الكبرى… وجدوا البيوت كلها خالية من السكان والحيوانات وكل مظاهر الحياة.
جاءت الوكالات الحكومية وعلماء الآثار والكيمياء والطب وكل فروع العلم، ولكن كل تلك الجهود لم تسفر عن أي شيء. اختفى سكان القرية بالكامل كأن الأرض قد انشقت وابتلعتهم أو أنهم تبخروا في الهواء!
الغريب في الأمر أن ممتلكاتهم كلها كانت موجودة، لم يمسسها أي ضرر: ملابسهم، طعامهم الذي طهوه موجود في قدوره، مخازنهم ممتلئة بالتموينات الغذائية، وكل متعلقاتهم الشخصية موجودة في أماكنها. كان أصحابها قد خرجوا للجيران أو لمناسبة اجتماعية. أين ذهب هؤلاء الناس؟ الأسر، الأطفال، كبار السن، لا أحد يعرف.
ظل هذا اللغز معلقاً منذ أكثر من خمسين عاماً بلا إجابة. سكان قرية يربو عددهم على العشرين ألف نسمة حملتهم الرياح إلى عالم المجهول، وبذلك يكون هذا أول ثقب أسود في ثوب الحياة في البرازيل.
القصة الثانية من (بابوا غينيا)، في تلك الأحراش الكثيفة عاشت قبيلة منعزلة عن العالم، يعتاش سكانها على الصيد والزراعة، ويعيشون دون أي رابط بالحياة الحديثة: لا كهرباء، لا مياه نقية، لا سلع تموينية خلاف ما يصنعون بأيديهم أو ما تجود به الطبيعة. لم يكن لهم أي اتصال تقريباً بسبل الحياة، فلا تلفزيون، ولا راديو، ولا هواتف، ولا مدارس، ولا أي شيء، وسارت حياتهم هكذا على هذا النهج البدائي حتى ظهر وباء غريب جعل الأهالي يفزعون. جاءت السلطات الصحية خشية انتشار هذا الوباء الغريب فيصبح كارثة قومية. بعد بحث مضنٍ وأخذ عينات من الأهالي اكتشفت السلطات أن ذلك الوباء اسمه “الكورو العصبي”، وكان ذلك المرض قد اختفى من الوجود تماماً منذ زمن بعيد. بدأ المرض يحصد أرواح السكان بسرعة غريبة، فجاء الأطباء من كل مكان وبادروا في البحث عن أسباب ذلك الوباء فتوصلوا لنتيجة غريبة وهي أن المرض يسببه أكل لحوم البشر، وليس لحوم البشر الأحياء، وإنما لحوم الأموات. وعندما تعمقوا في هذه الظاهرة أكثر وجدوا أنهم يأكلون لحم الميت من الأقارب فقط ولا يستسيغون لحم الميت الغريب!!!
جاء القساوسة والوعاظ الدينيون والأطباء يشرحون للسكان مفارقة هذه العادة للفطرة السليمة ومجافاتها للطبيعة البشرية السوية، بالإضافة لمخاطرها الصحية. وهكذا استطاعت السلطات بعد أي جهد شديد أن تقضي على هذه الظاهرة التي تركت ثقبا أسود ليس في غينيا فقط، وإنما في أفريقيا بأكملها.
القصة الثالثة فيها غرابة أيضاً. كان “تلفزيون أرامكو – شركة الزيت العربية السعودية” يبث في الفترات المسائية فقط من الظهران في المنطقة الشرقية، وكان هو التلفزيون الوحيد غير التلفزيونات الحكومية التي تبث في دول الخليج قاطبة. أذكر من البرامج الشيقة التي كنت أتابعها بشغف برنامجاً اسمه (Sixty Minutes أي ستون دقيقة). كان هذا البرنامج يعرض مواد متنوعة تشد الانتباه، وأذكر أن سلسلة منه كانت عن رحالة مغامر قام برحلات خطرة لقبائل تعيش في عزلة تامة. إحدى هذه القبائل كانت تعيش في جنوب شرق آسيا واسمها (The Head Hunters أي صائدو الرؤوس). شد ذلك المغامر الرحال بحثاً عن التصوير ونمط حياة هذه الجماعة، لكن السلطات المحلية امتنعت عن مساعدته بتاتاً، بل أوضحت له خطورة هذا الأمر، إذ إن هذه الجماعة تعيش خارج سلطة الدولة، وهم يقطعون رأس أي غريب تطأ أقدامه أرضهم. صمم الرحالة على إكمال المهمة رغم المخاطر، فاستأجر دليلاً قاده إلى تخوم منطقة هذه الجماعة، ثم توقف وأخبره بأنه قد دخل حدود هذه المجموعة الخطرة، وأن عليه أن يكمل بمفرده. واصل الرجل الرحلة، وسرعان ما ظهر له رجال أشداء عراة تقريباً إلا من لقاء الشجر. أدهشهم شكل الرجل ولونه فاقتادوه إلى زعيم القبيلة. استطاع الرجل التفاهم مع الزعيم بلغة الإشارة، ثم استخدم الحيلة فأخرج من حقيبته أشكالاً مبهرة من الحلي وأصنافاً شهية من الطعام المعلب، وبذلك بنى جسراً من التواصل والتوادد مع الرجل، فاستضافه معه ليستفيد مما معه من غرائب وعجائب، والتي كان يمكنه أن يأخذها عنوة ولكنه خشي أن تكون مضرة أو مؤذية، فانتظر حتى يرى أثرها على الغريب.
استطاع الرحالة بدهاء ومكر الغربيين أن يبني علاقة عاطفية مع ابنة الزعيم، فعاشت معه في منزل واحد بنياه بالأخشاب والأعشاب. في هذه الفترة استطاع أن يصور حياة هؤلاء البشر: ماذا يأكلون وماذا يلبسون؟ بل تعلم لغتهم وأصبح يتخاطب بها مع الأهالي. سأل فتاته السؤال المحير الذي أقلق مضجعه منذ البداية، والذي بسببه يتعرض لكل هذه المخاطر، وهو: لماذا يقطعون رؤوس أناس لم يبادروا بالعداء ثم يكتفون بقطع الرؤوس فقط ولا يمسون باقي الجسد؟ جاءت إجابة الفتاة غريبة جداً. قالت له إنهم يعتقدون أن الرأس يسجن الروح في الجسد، وأنه بمجرد قطع هذا الرأس فإن الروح تتحرر وتنطلق إلى السماوات العليا حيث الحياة الأبدية الخالدة، وأنهم بذلك يتقربون إلى الله فيكافئهم على هذا العمل. ولذلك كانوا يعلقون الرؤوس على جدران المنازل الخارجية يتباهون بذلك، وكلما كان عدد الرؤوس كبيراً كلما كان الرجل أكثر تقرباً إلى الله، تماماً مثلما يكتب بعض المسلمين على باب المنزل (منزل الحاج فلان الفلاني)، وأحياناً يكتبون من حجّ مرتين (منزل الحاج فلان الفلاني!!!).
بعد فترة بدأت الفتاة تسمع همساً بين أفراد القبيلة فيه تآمر على قتل الغريب، بل كان فيه تنافس بين الرجال على من سينال هذا الشرف الإلهي أولاً، فأسرعت بإخبار صديقها وساعدته على الهرب، فخرج في ليلة حالكة السواد قادته فيها الفتاة في دروب الغابات الوعرة حتى أخرجته إلى بر الأمان. خرج ونشر ما صوره من مظاهر حياة هؤلاء البشر البدائيين، والتي كانت ثقبا أسود في ثوب آسيا هذه المرة.
آخر العجائب والغرائب في سلسلتنا هذه من زمبابوي، حيث خرج رجل اسمه “بول بانيانجو” وادعى أن له قدرة روحية فائقة يستطيع بواسطتها أن يخاطب الرب مباشرة عن طريق الهاتف، وأن الرب يستجيب لطلبات مريديه الذين يرسلونها له عن طريق الهاتف أيضاً! كان هذا الرجل لبقاً جداً متحدثاً ذرب اللسان، مقنعاً جداً ذو صوت جهوري منغم يتغلغل في أعصاب المريدين، وكان يحمل هاتفاً من النوع القديم يدعي أنه موصول مباشرة بالسماء!!!.
سرعان ما ذاع صيت الرجل، فتجمع حوله رجال ونساء كثر جاؤوا من كل أرجاء البلاد، كل يحمل همه وكربته يأمل أن يوصلها هذا الرجل الصالح للرب والذي له القدرة على جلب الخير وفك الكرب!!!! عندما بدأت السلطات تستشعر خطورة هذا الرجل على معتقدات الناس وإيمانهم، توجهت نحوه الكنيسة في البداية تعظ الناس عن خطأ هذه الدعوة، ثم بدأت الدولة تستخدم عصاها الغليظة فأوقفت الرجل واحتجزته في أحد السجون، وهكذا كان هذا ثقبنا الأسود الرابع في أفريقيا أيضاً.
جاء في الآيات 15-16 من سورة التكوير: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)
وقد فسرها بعض العلماء بأن المقصود بها النجوم التي تظهر بالليل وتختفي بالنهار، وقد سميت هذه النجوم بالثقوب السوداء لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به أو يدخل في نطاق جاذبيتها.
وسلامتكم.
***
*أهنئ الإخوة قمر الدولة عبدالعزيز المقابلي ومأمون الخليفة بركات والأخوات أم سلمى وعواطف الفكي محمد عبد القادر على عقد قران أبنائهم، جعله الله زواجاً مباركاً. والتهنئة موصولة لكلّ من آل المقابلي وآل الفكي.
*أنعي بكل الحزن والأسى الخالة عائشة، كريمة الهرم الوطني الضخم الحاج مضوي محمد أحمد وزوجة ابن العم الحبر الخليفة بركات، التي لاقت ربها راضية مرضية في دولة الإمارات العربية المتحدة. العزاء لابنائها محمد وإخوانه، ولاشقائها الأمين وأسامة وأزهري وخالد، ولإخوانها عمر وأبو القاسم، ولجميع الأهل في العيلفون والجريف شرق والخرطوم والخليج وأمريكا.
*انتقلت إلى الرفيق الأعلى بالعيلفون الاخت سعاد كريمة العم عباس حاج علي وزوجة المرحوم محمد علي الشريف، أخت المرحوم الرشيد ومعاوية والسيد وحاج علي وفتح الرحمن. العزاء للأهل في العيلفون والجريف شرق. إنا لله وإنا إليه راجعون.
*القاهرة / العيلفون
*واتساب: 00201117499444