أخبار | السودان الحرة
هشام الخليفة
لدى بعض الأشخاص من حولنا قدرة غريبة على التغير والتحوّل والانقلاب من جانب إلى الجانب المعاكس دون إحساس بالذنب أو وخز ضمير. تجد الأمثلة على ذلك بين أفراد المجتمع العاديين، أو الموظفين، وحتى بين المحبين، غير أن أخطرهم نجدهم بين السياسيين، وهؤلاء هم الأكثر وجودًا قديمًا وحاليًا، لأن السياسي يؤثر مباشرة على حياة الناس. وقد شبهت هذا الشخص بالمرجيحة التي تنتقل من اليمين إلى اليسار بسهولة ويسر دون أن يرمش لها طرف عين.
المثال الأول، شاب زاملني في المرحلة الثانوية. كانت المدارس والجامعات آنذاك تضجّ بالندوات والحركة السياسية، وكان الاستقطاب الحزبي يبدأ من هناك. انتمى هذا الشاب لإحدى التنظيمات الدينية المتطرفة، وكان كادر عنف بامتياز. وبرغم قصر قامته، فقد امتاز بشجاعة فائقة. كان يقتحم الندوات والمناظرات المناوئة فيبدد شملها ربما قبل أن تبدأ. تفرقت بنا السبل ونسيت أمره حتى رأيته بعد زمان وقد تطاول مع أحد الزعماء الدينيين، وقد قدموه كأقرب مستشاريه، فتعجبت لذلك جدًا! فقد تحول صديقي من محارب للطائفية إلى أحد المدافعين عنها!!! وهكذا هي السياسة؛ تحكمها عند بعض الناس المصالح لا المبادئ.
سقط العهد الحزبي، وجاءت الإنقاذ، فازدادت دهشتي عندما وجدته قد احتل مقعدًا متقدمًا في مجلس الوزراء، وقد استعاد لحيته وأضاف لها مسبحة تزيده وقارًا.
أمّا قمة الكوميديا السوداء، فقد كانت قبل أيام حين رأيته يهرول خلف الرئيس البرهان في إحدى زياراته الخارجية!!!
هذا رجل انتهازي بامتياز، وهو أول مرجيحة في هذه السلسلة من المراجيح.
القصة الثانية، مختلفة تمامًا، حكاه لي أستاذي حسن عبيد الشايقي عندما عملت معه في “الخرطوم الثانوية القديمة” وكان مديرًا لها.
حكى لي أن لديهم زميلًا قصير القامة نحيفًا للغاية، وقد تخصص هذا الزميل في (الملحسة والدهنسة) لأي مدير جديد؛ ينقل له الأخبار ويزوده بالمعلومات الطازجة عن كل ما يدور في المدرسة أولًا بأول، وكان كل من يتفوه بكلمة نقد للمدير يلاقي جزاءه العادل!!
كان هذا الأستاذ يجلس أمام مكتب الناظر، يرافقه في جولته حول المدرسة كل يوم. وقد تصادف أن المدير كان طويلًا ضخم الجثة، بينما كان صاحبنا صغير الحجم، لذلك كان يضطر إلى الهرولة خلف الناظر، فكان منظرهما مضحكًا جدًا حتى أطلق عليه المعلمون لقب “كلب الناظر”. ترقى ذلك المعلم سريعًا جدًا بعد أن تولى رؤساؤه قيادة الوزارة فأصبح من الكبار والعظماء، وبذلك استحق “كلب الناظر” لقب المرجيحة الثانية في هذه السلسلة بجدارة.
القصة الثالثة، شهدت فصولها حتى النهاية. شاب لم يكمل تعليمه، فالتحق بوظيفة بسيطة في إحدى المصالح الحكومية. سارت به الحياة في سهولة ويسر، وكان قانعًا بما قسمه له الله، لا يطمح إلى أكثر، حتى شاهد بنت الجيران وقد كبرت وانفرد عودها وأينع. هام بها حبًا، ملك عليها قلبه فأصبح لا ينام. تواصل مع الفتاة فتجاوبت معه عندما أحست بصدق مشاعره، فبدأت المرحلة الثانية من الغرام. وجد نفسه يكتب أبياتًا حسبها من عيون الشعر، غير أنه كان لزملائه رأي آخر إذ رأوا أنها لا تعدو أن تكون تهجّمًا على الشعر واللغة العربية!!!
أحد الأصدقاء، ممن ينتمون إلى نفس المدرسة الشعرية، كتب له ذات مرة هاجيًا:
يا عمر، شعرك كله هظار
ولو سمعوك ناس بشار
كان جدعوك بالحجار
إن كلامك لا يساوي علبة سجار
وهكذا العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص.
تشجع صاحبنا وتقدم لخطبة محبوبته، غير أن أهلها رفضوا رفضًا باتًا، إذ كانوا يطمحون أن تقترن كريمتهم بمن هو أعلى مكانة. أسودت الدنيا في عيني صاحبنا، وسرعان ما غادر السودان بحثًا عن وضع أفضل. بقي في مهجره فترة طويلة حتى استطاع تكوين ثروة مناسبة، فرجع وهو يمني نفسه الأماني أن يقترن بمن اختارها قلبه، غير أنه تفاجأ بأن فتاته قد تزوجت وأنجبت وعاشت حياة أخرى تمامًا. نسي أو تناسى الموضوع حتى كان في زيارة عائلية لأحد الأصدقاء، وهناك قابل فتاة فاتنة الجمال، خفق قلبه لها من أول مرة. استفسر عن أسرتها فعلم أنها الشقيقة الصغرى لمحبوبته السابقة!!!
لم يغير هذا في مشاعره شيئًا، بل زاده إصرارًا على التقدم لها. هذه المرة لم يجد معارضة تذكر من الأسرة، بل وجد ترحيبًا حارًا، فقد تغيرت الظروف وأصبح أكثر مالًا ووجاهة. وكما يقولون: (كان فاتتك بت عمك، أخذ أخته). وهكذا نضيف مرجيحة عاطفية إلى سلسلة المراجيح هذه.
أما آخر مرجيحة، وهي التي اقتبسناها لنجعلها عنوانًا لهذا المقال، فهي عن شاب طموح في إحدى الدول العربية. نشأ هذا الشاب في مدّ ثوري انتظم العالم العربي كله، فانضم للركب وأصبح مع الثوار ومن أكبر الداعمين لزعيم ذلك التيار في بلده، غير أن ذلك الزعيم اختفى من الخارطة السياسية، وخلفه زعيم آخر يختلف تمامًا عن الأول، ولكن صاحبنا تحوّل برشاقة فائقة إلى الزعيم الجديد. ثم ما لبث أن دار الزمان دورته وجاء زعيم جديد، انتقل صاحبنا مع الزعامة الجديدة، وحينما ذهبت، خرج صاحبنا في البرامج التلفزيونية ينتقدها بشدة. هنا أطلق عليه الزعيم السابق لقب: (مرجيحة سيدنا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ط). وهذه مرجيحة تنصب في مولد النبي الكريم، تتقلب ذات اليمين وذات اليسار، لا يهمها الراكب بقدر ما يهمها ما في جيبه.
قال الشاعر:
من عاش صفراً من الأحلام والأدب
يحيا فقيراً ولو سار على الذهب
ما قيمة المرء إلا طيب جوهره
لا ما حواه من الأقوال والحسب
****
كن طيب القلب ذا خلق ودين تعش موفور الكرامة.
وسلامتكم.
* نهنئ الأخت هدى كريمة الشيخ الطيب إدريس، إحدى أعمدة التعليم في السودان، والأخ الشيخ خضر كبير مستشاري رئيس الوزراء حمدوك، بزواج كريمتهما، جعله الله زواجًا مباركًا.
* انتقل إلى رحمة الله في جمهورية مصر العربية الشاب أحمد الصديق أحمد، فذهب مبكيًا على شبابه. العزاء لوالديه وللأهل في العيلفون وأم درمان.
القاهرة / العيلفون
* واتساب 00201117499444