أخبار | السودان الحرة
حجاوي الجمعة – هشام الخليفة
لا تمنح الحياة الإنسان فرصًا كثيرة لتغيير وضعه للأفضل، وإنما في الغالب مرة واحدة أو ربما مرتين، فإما أن يغتنمها وتتبدل أوضاعه تمامًا، أو يدعها تفلت من يديه فيبقى في البيت للأبد.
ما سأرويه قصص حقيقية لأناس أعرفهم، منحتهم الحياة فرصة التغيير، ولكنهم ترددوا فضاعت منهم إلى الأبد.
أولى هذه القصص عن شاب ينتمي إلى أسرة ذات جذور عريقة تعيش قريبًا من العاصمة. تشبع هذا الشاب بقيم القرية من نخوة وشهامة وشجاعة. جاء إلى العاصمة للالتحاق بالجامعة، فشاهد حياة مغايرة لما اعتاده، أهمها الاختلاط المباشر مع الجنس الآخر، وهو ما لم يكن معتادًا عليه في مجتمعه الريفي المحافظ. تقابل مع فتاة غاية في الأدب والأخلاق، بعيدة عن شغب الشباب وممازحات الفتيات في مثل عمرها، فأعجب بها جدًا، ثم سرعان ما تحول الإعجاب إلى حب جارف. ما لبثا أن تصارحا بما يعتمل في قلبيهما، فتعاهدا على الزواج.
التحق الشاب بعد التخرج بوظيفة مناسبة في إحدى الوزارات الحكومية، وبدأ يخطط لمستقبله مع فتاته، وكان كله أمل وتطلع لمستقبل واعد، غير أن فتاته فاجأته باقتراح الزواج فورًا، فالعمر يمضي سريعًا، والحياة لا تنتظر الواقفين على الرصيف. حاول أن يشرح لها صعوبة ذلك في هذه الظروف البائسة، لكنها لم تتفهم ذلك أبدًا، ثم ما لبثت —بعد أن يئست من إقناعه— أن أعلنت له قطع هذه العلاقة فورًا. لم تسمح له أخلاقه ولا كبرياؤه أن يطلب منها التراجع، فغادر تلك المحطة وكله ألم وحزن شديد.
ما لبث صاحبنا أن أتيته فرصة السفر للخارج والالتحاق بوظيفة مرموقة في إحدى دول الخليج. تغيرت حياة صاحبنا تغيرًا كبيرًا، فجرى المال بين يديه مدرارًا، والدولار أنهار، فبنى بيتًا في أرقى أحياء العاصمة، واقتنى أفخر أنواع السيارات، ثم نسي أمر فتاته تمامًا بعد أن تزوج وكون أسرة.
بعد الحرب الأخيرة ونزوح السودانيين إلى دول الجوار، كان في زيارة قصيرة إلى دولة قصدها السودانيون بكثرة لسهولة دخولها. في أحد الأيام، قصد سفارة بلاده في تلك الدولة، وهو يتهادى في سيارة فخمة بسائق، لمقابلة السفير الذي كان أحد زملائه في الدراسة. فجأة، وهو يهم بالدخول، ووسط الحشود المحتشدة في الخارج، سمع صوتًا يناديه باسمه. عندما التفت ناحية الصوت، لمح امرأة مرهقة، رسم الزمن على ملامحها كل علامات البؤس والشقاء. وبعد أن تفرسها جيدًا، وجد أنها هي فتاته التي لفظته مثل النواة منذ زمان بعيد. تناسى كل ذلك وصاحبها للداخل حيث ساعدها في إنجاز معاملتها، والتي علم منها أنها ظلت لأسبوعين كاملين تتردد على السفارة للدخول، لكن الحراس لم يسمحوا لها. صحبها معه في السيارة لتوصيلها إلى حيث تقيم، وكان يتفرسها من مرآة السيارة وهي في المقعد الخلفي تستمتع بالتكييف البارد، الذي كان من الواضح أنها لم تعتد عليه وربما فارقته منذ زمن بعيد. شقت السيارة طريقها وسط الشوارع الضيقة لأحد الأحياء الشعبية، حتى أوقفتها أمام عمارة قديمة متهالكة. نزلت المرأة، وعندما همت بالدخول التفتت ناحيته، ثم رمقته بنظرة كلها أسف وندم، لكن الوقت كان قد فات جدًا. انطلقت به السيارة نحو الفندق الفخم الذي كان يقيم فيه، وبالصدفة كان صوت محمد وردي ينساب من مسجل السيارة، وهو يردد:
*بعد إيه جيت تصالحني بعد إيه
بعد ما ودرت قلبي الكنت فيه
جيت تشكى
جيت تحكي
ليه؟*
ثم تذكر أبيات ابن زيدون التي قصد بها ولادة بنت المستكفي:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقًا إليكم ولا جفّت مقينا
فانحل ما كان معقودًا بأنفسنا
وانبت ما كان موصولًا بأيدينا
وهكذا، وبيديها، نالت لقب أحد ملوك الفرص الضائعة.
القصة التالية شبيهة بالأولى، وهي أيضًا عن شاب طموح متطلع أنشأ مع بعض أصدقائه شركة واعدة، وبدأوا يعملون بجد واجتهاد. تصادف أن جارتهم في العمارة شركة صغيرة هي في الواقع توكيل لإحدى الشركات الأجنبية تديرها فتاة وأخوها الأكبر. وبحكم الجيرة نشأت بينهم علاقة عمل تطورت إلى علاقة حب بين الفتاة وصاحبنا هذا، ثم إلى تفاهم على الزواج. لم تسر الأمور كما يشاء المحبان، إذ إن صاحبنا ما لبث أن انفصل عن زملائه في الشركة وقرر العمل منفردًا، ثم ما لبث أن قطع علاقته بتلك الفتاة ومضى في حال سبيله. تدهورت أحوال صاحبنا تمامًا، بينما بدأ نجم فتاته يلمع وشركتها تزدهر، ثم ما لبثت أن أصبحت واحدة من أكبر الشركات في السودان. بعدت الشقة بين الاثنين، وأصبحت الفتاة في القمة، بينما ما يزال الشاب في محله مكانك سر! أضاع صاحبنا فرصة ثمينة على نفسه، فأصبح أحد ملوك الفرص الضائعة بامتياز.
القصة الثالثة من خارج الحدود، من أمريكا أرض الأحلام، وربما تكون من أكبر العبر في تاريخ الصناعة، وهي عن السيد رونالد واين. اسمه الكامل “رونالد جيرارد واين” وهو أحد ثلاثة أسسوا شركة “آبل للكمبيوتر” العملاقة. كان رونالد أكبر الثلاثة سنًا (41 سنة)، لذلك عهدوا إليه بإدارة الشركة، وقام بذلك في البداية خير قيام، بل إنه هو الذي صمم شعار الشركة (التفاحة المقضومة). لم تسر الأمور على ما يرام، فعقد الثلاثة اجتماعًا اقترح فيه ستيف جوبز على رونالد رهن منزله لأحد البنوك مقابل قرض بمبلغ 15000 دولار، ولكن رونالد رفض ذلك تمامًا خشية أن يفقد منزله بعد أن استشعر بوادر فشل الشركة. ما لبث رونالد واين أن عرض أسهمه في الشركة للبيع وباعها فعليًا بمبلغ 800 دولار (ثمانمائة دولار)، ثم اختفى من المسرح تمامًا. تطورت شركة آبل بسرعة شديدة حتى أصبحت واحدة من أكبر شركات البرمجيات في العالم. بحث أحد الصحفيين عن السيد رونالد واين حتى عثر عليه أخيرًا يعيش في مدينة ريفية صغيرة يصطاد السمك ويرسم اللوحات الطبيعية. أجرى الصحفي معه مقابلة مطولة ختمها بقوله:
“سيد واين، هل تعلم أنك لو ما زلت شريكًا في آبل لكان نصيبك 345 مليار دولار وبذلك تكون واحدًا من أغنى أغنياء العالم؟”
أجاب واين وهو يرسم نصف ابتسامة على شفتيه:
“أعلم ذلك، ولكنني كنت سأكون غنيًا داخل قبر، فقد كان سيقتلني التوتر والقلق قبل هذا بكثير.”
وهكذا، يعتبر السيد رونالد واين أحد ملوك الفرص الضائعة.
أما القصة الأخيرة فهي من السودان، وهي قصة سياسية. وأنا عادة لا أحب الحديث في السياسة، ولكنها جاءت في سياق الموضوع. استولى على السلطة تنظيم سياسي رفع شعارات براقة عن العدالة والنهضة والفرص المتساوية، ولكن طول المكوث في السلطة أفسد القابضين على زمام الأمور، فاستشرى الفساد والاستبداد والظلم، حتى خرج الشعب فسقط ذلك النظام. ولكن كالعادة قفزت الأحزاب السياسية المعارضة لذلك التنظيم على سدة الحكم (فأعست الأمور عوسًا)، فكان الفشل حتميًا، وانتهى عهدها بحرب ما تزال أُوارها مستعرة… أخرجنا منها يا الله سالمين آمنين.
وسلامتكم.
* توفي بالعيلفون أحد نجوم العمل العام، الأخ (حمرى)، ففقدت بذلك أحد أبنائها البررة، له الرحمة والمغفرة بقدر ما قدم لوطنه ولمجتمعه من خير كثير. العزاء لأسرته ولكل الأهل بالعيلفون.
* احتفل الأهل والأصدقاء في القاهرة بزواج كريمة الأخ يحيى عباس زروق ورحاب سراج النور. جعله الله زواجًا مباركًا.
* القاهرة / العيلفون
* واتس آب 00201117499444