أخبار | السودان الحرة
بقلم/ محمد الحسن محمد نور
لطالما استهوتنا أفلام “الويسترن” في صبانا، ورحنا نقتدي بها ونتعلّم منها الشجاعة والفضيلة. ولا يزال الإعلام الغربي يزخر بصورة الإنسان الأوروبي الشجاع الرحيم، المنقذ للجنس البشري وللحيوان، المدافع عن القيم الإنسانية الرفيعة. هذا هو الوجه الأمامي للعملة، هذا هو الوجه الجميل الذي يتم الترويج له. إلا أننا وبعد كل ذلك البهاء فقد أصبنا بالصدمة لاحقاً لدى انكشاف زيف الصورة التي سوغت لنا الباطل فى صورة الحق. أما الوجه الخلفي المخفي عمداً، فهو الذي يجسد أبشع مشاهد القبح والدمار والوحشية.
في غزة تمزق هذا الستار بعنف، ليكشف لنا عن تناقض صارخ، فـ”الإنسانية” المعلنة توارت واختفت عندما تعارضت مع المشروع الاستيطاني التوسعي، الذي تجرد تماماً من الأخلاق التي يتغنون بها ولم يعترف بأي قانون سوى قانون القوة. المشهد اليومي في غزة شريط مأساوي يجسد الوحشية في واحدة من أبشع صورها، ويدفعنا بقوة إلى النظر في أصل العقيدة التي أنتجته. هذه الوحشية لم تولد هنا في غزة، وإنما هي سليلة عقيدة نشأت وترعرعت على الأرض الأميركية، وكتب فصلها الأول منذ قرون على أيدي المهاجرين الأوروبيين الذين وفدوا إلى تلك البلاد بحثاً عن الثراء، ويكتب فصلها الحالي في غزة على أرض فلسطين.
لقد بدأت المأساة في فلسطين بوثيقة “وعد بلفور” عام 1917، عندما منحت إمبراطورية أرضاً لا تملكها لحركة استعمارية لا تستحقها. اليوم، واقتداء بأسلافه، أعلن الرئيس ترمب خطته الرامية إلى تحويل غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط” وتحويلها إلى “فرصة عقارية استثمارية” بعد إفراغها من سكانها الأصليين. وهذا المشهد ليس إلا صدى واسترجاع لتلك المأساة الأميركية القديمة، حيث مثل وصول المهاجرين الأوروبيين إلى شواطئ أميركا “اكتشافاً” مذهلاً كان في حقيقته بداية مشروع استيطاني كبير وفرصاً واسعة لمغامرين يبحثون عن الثروة.
جاء هؤلاء حاملين معهم معرفة أوروبا وثقافتها إلى أرض بكر تقطنها شعوب بدائية تعيش على الفطرة، أناس طيبون مسالمون مضيافون. جاء المهاجرون وبدأوا بتشكيل مجتمعاتهم دون أن يعترضهم أو يمنعهم أحد، إلا أنهم لم يكتفوا ويتعايشوا مع أصحاب الأرض، بل بدأوا في إبعادهم وتصفيتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وأرضهم. أشعلوا حروباً غير متكافئة، جاءوا يحملون البنادق والمدافع ليستعملوها ضد شعوب لا تعرف من أدوات الحرب غير القوس والنشاب والتوماهوك. بدأت حرب الإبادة بالسلاح والدهاء الذي لا يعرفه هؤلاء البسطاء.
وجاءوا حاملين في حقائبهم أمراضاً مجهولة، مثل الجدري والحصبة، لتقضي على ما يقارب 90% من السكان الأصليين, “قيل إن ذلك كان بسبب عدم تعرف مناعتهم البيولوجية على تلك الأمراض”، لذلك كانت أجسادهم أرضاً بكراً لهذه الجراثيم التى فتكت بهم وأي فتك!
إلا أن الكارثة التي بدأت بصورة عشوائية، سرعان ما تحوّلت إلى سياسة رسمية، فلم يتردّد المستوطنون في استغلال هذا الضعف واستخدام المرض كسلاح، كما في حادثة “بطانيات الجدري” الشهيرة. لقد كانت “إبادة بيولوجية” ممنهجة مهّدت الطريق للخطوة التالية.
لم تكن الإبادة بالأمراض الفتاكة مجرد صدفة بيولوجية كما يزعم بعض المؤرخين الغربيين، ولكنها كانت جريمة مُخطَّطاً لها وثابتة بأدلة دامغة. فقد أدت استراتيجية الاستعمار الاستيطاني، التي اعتمدها المهاجرون الأوروبيون وحكوماتهم المتعاقبة، إلى انحدار كارثي في أعداد السكان الأصليين، حيث انخفضت أعدادهم من تقديرات تتراوح بين مليونين إلى 17 مليون نسمة قبل الاتصال الأوروبي إلى أقل من نصف مليون شخص في القرن التاسع عشر.
ففي الإبادة البيولوجية المتعمدة، وبالرغم من أن الأمراض المعدية التي حملها الأوروبيون شكلت العامل الأكبر في الوفيات، إلا أن التاريخ قد وثق استخدامها كسلاح حربي صريح. ففي عام 1763، وثق الجنرال البريطاني جيفري أمهرست نيته الصريحة في رسالة للكولونيل هنري بوكيه، حيث تساءل: “هل يمكن ألا يتم التخطيط لإرسال الجدري بين تلك القبائل الهندية الساخطة؟”. وفي رسالة لاحقة، أشار أمهرست إلى استراتيجية التدمير بعبارات لا تقبل التأويل: “سيكون من الجيد أن تحاولوا تطعيم الهنود عن طريق البطانيات الملوثة، وكذلك تجربة كل طريقة أخرى يمكن أن تخدم في استئصال هذا العرق البغيض”. هذه النية الصريحة بالتدمير المادي للجماعة تندرج بوضوح ضمن جريمة الإبادة الجماعية.
وجاء التطهير العرقي والتهجير القسري عبر “درب الدموع” ليكون الأداة الرئيسية للسيطرة على الأرض. فقد أصدر الكونغرس قانون إزالة الهنود عام 1830، الذي سمح بنقل آلاف القبائل قسراً من جنوب شرق البلاد إلى مناطق غرب نهر المسيسيبي. ونُفذ هذا التهجير في ظروف بالغة القسوة، حيث تشير التقديرات إلى وفاة ما بين 4,000 إلى 25,000 شخص من أصل حوالي 60,000 إلى 100,000 تم تهجيرهم، بسبب الجوع والبرد وسوء المعاملة. وأظهر الرئيس أندرو جاكسون ازدراءه للقانون عندما رفض الالتزام بحكم المحكمة الفيدرالية العليا لصالح قبيلة الشيروكي، قائلاً بتهكم: “لقد أصدر جون مارشال حكمه، فليقم الآن بتنفيذه”.
كما استهدفت القيادة العسكرية الأميركية تدمير مصدر بقاء قبائل السهول الكبرى، وهو حيوان البيسون (الجاموس)، الذي كان مصدر غذائهم وحياتهم. فقد قام الجيش الأميركي بعد الحرب الأهلية بدعم صيد الملايين من البيسون، واعتبر جنرالات مثل فيليب شيريدان أن الصيادين “فعلوا لحل المسألة الهندية أكثر مما فعله الجيش المنتظم بأكمله في الأربعين عاماً الماضية”. وكانت وجهة النظر العسكرية صريحة: القضاء على مصدر الغذاء هو “خط الهجوم الحاسم” لإجبار الهنود على الاستسلام والعيش في المحميات.
وتضمنت السياسات الاستعمارية أعمال قتل مباشرة وممولة حكومياً، حيث قدم حاكم ماساتشوستس ويليام شيرلي عام 1755 مكافأة قدرها 40 جنيهاً إسترلينياً لكل من يحضر فروة رأس رجل هندي، و20 جنيهاً لكل فروة رأس امرأة هندية أو طفل تحت سن 12 سنة. هذه السياسة حولت القتل إلى مهنة صيد للأفراد، وعمل اقتصادي مدعوم من السلطة. كما أسفرت مذبحة الركبة الجريحة عام 1890 عن مقتل ما لا يقل عن 150 شخصاً من رجال ونساء وأطفال قبائل لاكوتا، حيث كان ما يقرب من نصف الضحايا من النساء والأطفال.
ولم تكن الإبادة الثقافية الممنهجة أقل وحشيةً، فقد تم إنشاء نظام المدارس الداخلية الهندية بهدف “الاستيعاب والتدمير الثقافي”. حيث تم إبعاد أكثر من 150,000 طفل عن عائلاتهم، ومنعوا من التحدث بلغاتهم الأصلية، وعوقبوا جسدياً. وقد وصفت لجنة الحقيقة والمصالحة الكندية هذا الفعل بـ”الإبادة الثقافية”، وتدل المآسي المرتبطة بهذه المدارس، بما في ذلك اكتشاف مئات القبور المجهولة للأطفال، على الأذى الجسيم الذي يتفق مع تعريف الإبادة الجماعية.
اليوم، يُظهر العدوان المستمر على قطاع غزة فصولاً متطابقة مع نموذج “الاستعمار الاستيطاني” الذي وُلدت عليه الولايات المتحدة. فالحصار والتجويع الذي يطابق تعريف الإبادة الجماعية، والتهجير القسري الذي يمثل “درب الدموع” العصرية، وتدمير البنى التحتية الذي يعادل إبادة البيسون، كل هذا يحدث تحت سمع القانون الدولي وبصره.
ويكمن الفارق الجوهري بين المأساتين في التوقيت التاريخي والسياق القانوني: فالكارثة الأميركية حدثت قبل صياغة القوانين الدولية الحديثة، بينما تحدث الكارثة في غزة اليوم تحت المظلة النظرية للقانون الدولي. ففي ظل المعاهدات التي تسعى للتعايش السلمي ونبذ الاستعمار، يظل السؤال: كيف يمكن لأعمال التدمير والتهجير القسري التي تندرج بوضوح ضمن بند “إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي”، أن تستمر دون رادع حقيقي؟
وعلى الرغم من كل هذا، فلا بد من الإقرار بأن الولايات المتحدة – التي بنيت على هذه الأسس – قد قدَّمت لاحقاً مساهمات لا تضاهى في تقدم البشرية عبر الاختراعات العلمية والتقنية. فمن رواد التيار المتناوب نيكولا تسلا والطيران الأخوان رايت، إلى تطوير الأسلحة النووية في “مشروع مانهاتن” وتأسيس شبكة الإنترنت، لعبت أمريكا دوراً رئيسياً في دفع عجلة الابتكار. لكن هذا الازدهار المادي لم يكن ليتحقق لولا التوسع الهائل على أراضٍ لم تكن شاغرة، بل كانت مأهولة بحضارات عريقة سُحقت تحت وطأة ما يُصنف تاريخياً كأعمال إبادة جماعية وتطهير عرقي.
وتبقى التساؤلات الأساسية قائمة: كيف لأمة بنيت فوق الجماجم وتأسست على أقبح المآسي، أن تقدم للعالم أعظم الابتكارات، وهل ستكون نهاية القصة في غزة مختلفة عن سابقتها الأمريكية؟. لقد نجح المشروع الاستيطاني الأول في تأسيس دولة على جماجم السكان الأصليين، محولاً جرائمه إلى أسطورة تأسيس. واليوم، يحاول المشروع الاستيطاني الثاني كتابة أسطورته الخاصة على أنقاض غزة. الفوارق الجوهرية هذه المرة أن العالم يتدثر بميثاق الأمم المتحدة رغم اهترائه والضحايا ليسوا معزولين في قارة بعيدة، فأعين العالم تراقب، وصور معاناتهم تخرق جدران التعتيم. فهل ستسمح الإنسانية، وقد وعت دروس الماضي، بتكرار النهاية نفسها، أم أن درب الدموع هذه المرة ربما ينقلب على من حفره..؟
محمد الحسن محمد نور
٩ أكتوبر ٢٠٢٥