أخبار | السودان الحرة
د. عمار حسن خميس
عندما كنت أدرس في مرحلة الماجستير، وتحديداً في كورس الجينات الوبائية، اكتشفت حقيقة علمية كنت أجهلها سابقاً، وذلك بسبب ابتعادي عن علوم الأحياء منذ السنة الثالثة الثانوية، حين اخترت مسار الرياضيات كتخصص، وفقاً لنظام التعليم الثانوي في السودان الذي يُلزم الطالب باختيار أحد المسارات “أدبي، أحياء، أو رياضيات”، حسب قدراته.
المعلومة التي أود مشاركتها مع الجميع هي أن الإنسان يمتلك مكونات جينية لا نعلم عنها الكثير، وتُعرف علمياً بـ Genotype، بالإضافة إلى مكونات غير جينية، وهي الظاهرة التي نراها في الإنسان أمامنا، وتُسمى Phenotype.
معظمنا، إن لم يكن جميعنا، اكتفى بالتعرف على ذاته من خلال الجزء الظاهر فقط، وتعايش معه. وهذا ما نراه اليوم من اختلاف في الألوان، والأشكال، واللغات، وهو ما أدى إلى تقسيمنا في السودان إلى قبائل، وجعلنا متفرقين.
وقد استغل بعض ضعاف النفوس، خصوصاً السياسيين، هذا الانقسام، وجعلوا السودان في حالة تناحر مستمر، بينما الحقيقة أن هذا الخلاف الظاهري لا ينبغي أن يكون أساساً للتفرقة، لأننا أهملنا الأهم “تركيبتنا الجينية”.
اليوم، أود أن أضع بين أيديكم تجربة شخصية، قد يكون كل واحد منكم بطلًا لها أيضًا.
ذهبت للاشتراك في نادٍ رياضي حديث يستخدم أساليب متطورة، حيث يُطلب منك في أول يوم تقديم عينة من اللعاب، ودفع مبلغ مالي، والموافقة على إجراء فحص جيني يساعد النادي في تصميم برنامج رياضي وغذائي مناسب لك. الهدف هو معرفة ما إذا كانت تركيبتك الجينية تحتوي على جينات مرتبطة بأمراض مثل السكري أو السمنة، وغيرها من المؤشرات الصحية. كما كان هناك خيار إضافي لإجراء فحص شامل للحمض النووي (DNA) مقابل مبلغ إضافي.
عندما حصلت على نتائج الفحص، فوجئت بتركيبة جينية أذهلتني، وجعلتني أنظر إلى وجوه الناس من حولي نظرة مختلفة، بعيداً عن اللون أو اللغة أو الشكل. علمت أن جيناتي تحمل نسباً من مختلف أنحاء العالم “تركيبة إكواتورية، حبشية، هوساوية، تونسية، بل وحتى اسكندنافية”!
قلت في نفسي “سواء كثرت هذه النسب أو قلت، فأنا جزء من هذا الكل. ببساطة، قد أكون في خلاف مع شخص هو من دمي ولحمي، أو على الأقل أخي جينياً”.
ومن هذا الاكتشاف، أدعو الجميع في كل مكان إلى تأجيل الخلافات المبنية على المظهر الخارجي، والعودة إلى المقياس الجيني، فقد نكتشف الحقيقة الماثلة “أن ما قسمنا إلى قبائل هو مجرد مظهر لا قيمة له، وأن الحقيقة الجينية تخلط بيننا تماماً”.
وهنا أود أن أُذكّر بالدراسة العلمية التي أجراها البروفيسور منتصر الطيب من معهد الأمراض المستوطنة بجامعة الخرطوم، حول الجينوم السوداني، والتي اكتشف فيها أن الجين الهوساوي موجود بنسبة 70٪ في التركيبة الجينية للسودانيين، إلى جانب جينات أخرى متنوعة.
لعل المعرفة الجينية تكون وسيلة لتقاربنا بدلاً من تفرقنا. فلنعد إلى جذورنا الجينية، وندرك أننا من نفس المشكاة، وأن اختلاف الألوان واللغات والعادات هو نتيجة لتفاعل البيئة مع الجينات، وهو ما يُعرف علمياً بـ Epigenetics، وهو عامل لا ينبغي أن يكون سببًا للخلاف.
نحن جينياً من نفس الأصل، وإذا اعتمدنا هذا المعيار، فنحن إخوة وأقرباء (أبونا آدم وأمنا حواء). فلنضع الخلافات المظهرية جانباً ولنكن أكثر عمقاً، فالاتفاق على هذا الأساس هو السبيل الأمثل للاستفادة من التنوع الظاهر في سبيل المحبة، لأن العرق الجيني واحد.
اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.