لم يُسعفني هواني على كبار شخصيات الدولة بزيارة مكتب أي وزير في بلادي الغنيَّة بأشجار التك والأبنوس والأندراب والساج والمهوغني، لأُمتع ناظريَ بأثاثها الخشبي الفخيم المستورد، وأرائكها ذات الوسائد المخملية، ويتملكني شغف لزيارة مكتب والي الخرطوم، وجنَّح بي الخيال إلى أن سأطالع شعارات صحية وبيئية تُزيٍّن مدخله وجوانبه، ومنها بلا شك:
* لا تقتل البيئة كي لا تقتلك.
* قريباً تستعيد العاصمة أناقتها وجمالها وإشراقها مدينة خضراء زاهية وجاذبة للزوار والسياح.
* من حق مواطن ولاية الخرطوم أن يعيش في بيئة مكتملة نظيفة.
* واجبنا التنفيذي يُحتِّم علينا توعية أطفالنا بأن الحفاظ على البيئة يدخل في صميم الواجبات الوطنية.
ولكن يبدو من خلال قراءة الواقع الماثل الآن أن الولاية تعتمد في خطتها لإزالة البثور التي تشوه وجهها الجميل على فلسفة الأضداد أو المتقابلات أو النقائض المستمدة من نظريات الديالكتيك الهيجلي: “كل فكرة تحمل في ثناياها نقيضها”، والتي اعتُمدت ضمن أفضل نظريات التفكير والتخطيط الإستراتيجي الحديث في كثير من ولايات وطن مغبون ومُنتهك، إذ لولا القُبح لما اكتحلت عينا أحد بالجمال، ولما عرف الناس قيمته، ولولا المرارة لما استطعم عُشاق (الباسطة) لذعة حلاوتها، ولولا القذارة لما هشَّت المجتمعات وافتُتنت بمظاهر البهاء والنضارة، ولولا الخوف من (9 طويلة) لما أشعل المتوجِّس في بيته مصباحاً ولا فتيلة، وحتى تنعم عيون سكان الخرطوم بنظافة طُرقاتها وساحاتها كان لابد من إثارة اهتمامهم عبر النقيض، أي بتوجيه تلسكوب الولاية على ركام القذارة بهدف شحذ هممهم وعزائمهم ليتحركوا إشفاقاً على عيونهم وحمايتها من الأذى، ولتحقيق هذا الغاية الأسمى؛ أغمضت الولاية عينيها عن تراكم النفايات مما حوَّل شوارعها المتسعة وساحاتها الفسيحة إلى مكبٍّ سهل ومتاح للقمامة ليزيد نابشوها المشهد قُبحاً إلى قبح، وهم بذلك يدعمون نظريتها وفكرها التخطيطي من حيث لا يشعرون.
تتلذذ الولاية إزاء معضلة النظافة هذه باستسلامها لجدوى تظريتها المُعتمدة لديها، ولذلك لا غضاضة، بل ليس ثمة مأخذ على ذهابها في (تعسيلة) طويلة مثل (تعسيلة) مجلس السيادة إزاء معاناة المواطن، وأن يسترخي مسؤولوها في مكاتبهم الأنيقة وهم يُطالعون مثلنا في الأسافير أخبار الجريمة، أو يشاهدون توثيقاً لها بالفيديو.
نعم، لولا تلال (الأوساخ) في الشوارع لما تململنا وتقزَّزنا، ولما استخدمنا أصابع الإبهام والسبابة لقفل أنوفنا، ولما ارتفعت وتيرة اشمئزاننا ونقدنا لتردِّي الوضع البيئي متأثرة بشعار الحسناء؛ طويلة مهوى القرط بيروت: (ريحتكم طلعت). نفعل ذلك ونحن نُنحي باللوم والعتب على الولاية، وننسى أننا أكبر مُغذٍ لأوردة وشرايين النفايات في طرقاتنا ومياديننا العامة، ولا يهمنا بعد نظافة بيوتنا أن يتحوَّل خارجها إلى لوحات مُنفِّرة باعثة على الغثيان.
صحيح أن (غفوة) الولاية في هذا الشأن طالت وامتدت وفضحتنا بين الشعوب. فما أفظع من اتهامنا بالقذارة!! وكي نحمي أنفسنا من هذه الصفة القميئة؛ لا بد من وضع أيدينا معها، ومساعدتها على تعديل أو إلغاء فلسفة الأضداد في فكرها التخطيطي، وبذلك يتساوى نقاء الخارج ويتناغم مع نظافة الداخل، وكل من يتجاهل الخارج، ويظن أن الأمر لا يعنيه، فتلزمه إعادة النظر في وطنيته؛ إذ الوطنية ليست شعاراً وإنما أفعال تتطابق مع الأقوال.
ومهما يكن وما كان فالخرطوم عاصمة آمنة وسياحية، رغم الساعين إلى نعيها في صفحة كاملة بالصحف المحلية.